انتخابات الأندلس في إسبانيا




رغم فوز الحزب الاشتراكي- الأندلس PSOE-A، بزعامة السيدة "سوسانا دِياث"، في انتخابات يوم امس الاحد 2/12/2018، إلا انه لم يتحصل على الأغلبية التي اعتادها خلال الأربعة عقود الأخيرة، حيث فاز بـ 33 مقعداً، ولكنه خسر 14 مقعدا، مقارنة بآخر انتخاب الأندلس عام 2015م، أي أنه بقي بعيداً عن الـ 55 مقعداً الكفيلة بمنحه الأغلبية الساحقة، بالرغم من تحالفه مع ائتلاف اليسار -"الأندلس إلى الأمام"- الذي يضم حزب "بوديموس" واتحاد اليسار IU، المتحصل على 17 مقعداً، وهو ما يمنح الحزب الاشتراكي 50 مقعداً فقط من أصل 109 مقاعد بالبرلمان الأندلسي، مقارنة بـ 59 مقعداً لصالح خصومه اليمينيين، وهو ما يعتبره المحللون اسوأ نتيجة انتخابات في تاريخ الحزب الاشتراكي.

الحزب الشعبي PP تحصل على 26 مقعداً، ناهيك عن تحالفه مع اليمين المتطرف (VOX) الذي جنى 12 مقعدا في البرلمان الأندلسي بطريقة غير متوقعه، وحزب مواطنون أو "ثيودادانوس" Cs. الذي تحصل على 21 مقعداً. بهذه النتيجة يصل الحزب الشعبي وحلفائه إلى عدد 59 مقعداً الكفيلة بجعل مرشح الحزب الشعبي بالأندلس يترأس المجلس الأندلسي (الذي يشرف على تسيير سياسة الحكم المحلي) في حال توصل هذا الحزب إلى اتفاق مع حلفائه المذكورين.

نتوقّع وجود تحالف ضمني بين الأحزاب اليمينية قبل موعد الانتخابات الأندلسية المذكورة أعلاه، وليس بعدها، وذلك لأن القفزة التي قفزها حزب فوكس VOX في هذه الانتخابات (من صفر إلى 12 مقعدا) لم تكن لتتحقق لولا "توطئة" من الحزب الشعبي PP. هذا الأمر طبيعي مادام هدف الحزب الشعبي هو التعجيل بالإطاحة بالحكومة الاشتراكية، أو صدّ موجة اليسار والجمهوريين، ناهيك عن أن احترامهم لحزب VOX ليس من فراغ فهو، أي الحزب الشعبي، يرى في هكذا تقارب مع ثيودادانوس وفوكس، تشكيلة قوية ستتيح له الوصول لسدة الحكم في الانتخابات العامة القادمة، سواء تقدمت الانتخابات أم تأخرت، وفي الأثناء اقترانه بحزب فوكس يزيد من حظوظه في المستقبل، ويؤكد على نجاح مهمته في توحيد اليمين كما يشير بعض المحللين الاسبان. أضف إلى ذلك أن أصول عناصر حزب "فوكس" تعود للحزب الشعبي، أو هي من صُلبه، وكانوا فيه باعتباره يمثل واجهة يمينية "أكثر اعتدالاً" إذا جاز التعبير، واليوم ظهروا للمشهد السياسي بعد 5 سنوات من الاختباء، وأيدتهم كثير من أصوات أنصار الحزب الشعبي PP.

المشهد الاسباني اليوم أشبه ما يكون في نظرنا بزمن المواجهة بين جمهوريين وقوميين، ونرجو أن لا تتهيأ الأجواء لبيئة مهدت في ألمانيا ما قبل الحرب العالمية لظهور المتشددين، وتدارك الأمر، وتفادي تداعيات أزمة الانفصال، وأزمة الأنظمة الحزبية والقيادة، مع الاهتمام بإصلاح الاقتصاد ومعالجة مشكلة الديون.

نعتقد أن غالبية سكان اسبانيا سيتقون شر المواجهة، ولكن الكاتالانيون لا يأبهون، ويعتبرونها جهاداً كما لو كانوا انتحاريين، وكلما زاد عنادهم زاد عناد وتطرف اليمين، وإذا لم يتحصلوا على تأييد في الخارج لقضيتهم فإنهم قد يستمروا، وبكل بساطة، في زعزعة استقرار أي حكومة يمينية قد تصل سدة الحكم. من جهة أخرى تحالفهم مع الحزب الاشتراكي سيكون أقوى في حال عودة الحزب الشعبي للحكم إثر انتخابات مسبقة قبل انتهاء فترة الحكومة التشريعية الحالية، وحينها تعم الراديكالية، يميناً ويسارا..

فيما يخص تفادي تداعيات أزمة الانفصال، فإن المسؤولية فيها تقع اليوم على الحزب الاشتراكي، والوصول إلى حل بالخصوص سيعود بالمنفعة على الحزب الاشتراكي، ولكن هذا سيتطلب رضوخ الحكومة الكاتالانية، وتنازل من قبل الحزب الشعبي عن هدفه الأساسي في الإطاحة بالحكومة.  



قطيعة .. استمرارية




يبحث الحزب الشعبي PP وحزب "مواطنون" Cs عن أي وسيلة للضغط على حكومة "بيدرو سانتشيث" ليتحقق لهما هدف الوصول لحل البرلمان والدعوة لانتخابات مسبقة، على اعتبار أن هكذا انتخابات ستكون نتيجتها لصالحهما. 
السبب الأخير وراء الضغوطات اليمينية المذكورة هو قرار الحكومة الاشتراكية "تخفيف" الحكم في القضية الموجهة إلى قادة الانفصال الكاتالاني، واعتباره مجرد "محاولة للعصيان" وليس انقلاباً إستُخدم فيه عنفٌ، وهو ما تعتبره المعارضة تدخلاً في شؤون السلطات القضائية لإرضاء مآرب شخصية سلطوية. 
وبدوره يأتي هذا التصرف من قِبل الحكومة الحالية في إطار ضمان جمع أكبر قدر من الأصوات، بما فيها أصوات الأحزاب الانفصالية، لتمرير مشروع الميزانية، وتفادي القطيعة وضمان الاستمرارية في الحكم حتى 2022م. 

الحكومة الاسبانية الحالية (التي وصلت لسدة الحكم بتآلفات مع الانفصاليين والاستقلاليين، ومع حزب "بوديموس" الشعبوي المريب) لم يصبح فيها رأي واحد، بل عدة آراء، بعدد الشركاء، شركاء في الحكم سيذهب كل واحد بما يرى، وقد كان هذا هدفهم منذ تنصيب هذه الحكومة التي وصلت لسدة الحكم بتحالفٍ معهم بلا استثناء، وإذا ما بغى الشركاء فالرجوع سيكون حتما إلى الوراء، ويُدعي لانتخابات قبل الأوان، وأي حكومة يكثر فيها الخلطاء تتمزق وتصبح أشلاء.

مسألة القطيعة والاستمرارية تعيد الى الادهان قرار الجنرال "فرانكو" الصائب عام 1975 بإعادة الشرعية إلى أهلها.. إلى التاج البربوني (متمثل في شخص "خوان كارلوس الأول") في خطوة أسميها "خطوة الى الأمام بالرجوع الى الوراء".. (شرعية إلى الوراء). اثر ذلك تجاوزت إسبانيا المرحلة الانتقاليه بنجاح وسارت في خطى واثقه نحو الديمقراطية.

من المخيب للأمل أن يتناسى المتصارعون على السلطة في اسبانيا اليوم ذلك المجهود الهائل الذي بدله المؤسسون لضمان استمرارية المرحلة الديمقراطية، والتي لولا هؤلاء لما وصلت إليهم ولا وصلوا بها الى ها هنا. الخطأ الفادح سيقع في حال محو ذلك من الذاكرة بعد طول أمد عاشته اسبانيا في استقرار ورغد وهناء..

مهمة الحزب الاشتراكي قد تكمن في الرجوع خطوة الى الوراء.. لمراجعة دوره كوسيط وطريقته في اختيار الحلفاء، فأن تخسر انتخابات خير من أن تفوز بها لتتقاسمها مع خصوم مخربين أو غير أوفياء. أما الحزب الشعبي فهو على صواب فيما يرى، ولكن خطأه في أسلوب المعارضة وردود فعله التي تبدو ناتجة عن رغبة في الانتقام أكثر منها في التصحيح واقناع الخصم بتفادي ما لا يُحمد عقباه. 




الحضور الإسباني

 في الاتحاد الأوروبي

18 -3 - 2018



تـوطئـــــــــة:-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تأتي هذه الورقة التحليلية على خلفية مقالة نشرتها صحيفة "بانغوارديا" بتاريخ 28 يناير 2018م حول "تراجع النفوذ الإسباني في المحافل الأوروبية"، من حيث فقدانها لمناصب هامة وقيادية، منذ 2009م (أو منذ 2012م حسب مصدر صحفي آخر) مضيفة أن مسؤوليات اسبانيا في المحافل الدولية ليست من الدرجة الأولى، بل الثانية، ولا تليق "بمستواها الإقتصادي" (الجيد)، وأنه "من المدهش عدم وجود اسباني واحد في مركز القيادة في محفل أوروبي أو دولي" منذ سنة 2009.
الاختلاف في السنين لا يفسد لنتيجة الموضوع قضية، حيث أنه متقارب ويندرج في الفترة الزمنية لحكومة واحدة، وهي حكومة "رودريغيث ثاباتيرو"، رئيس الحكومة الاسبانية عن الحزب الاشتراكي العمالي، الذي وصل لسدة الحكومة في مارس 2004 (بطريقة غير متوقعه لا مجال لذكر حيثياتها هنا) ثم في ديسمبر 2011م غادر الحكومة قبل الأوان بقليل بسبب أزمة اقتصادية حادة، يفترض أنه أحد المتسببين فيها بعد أن استلم بلداً معافى اقتصاديا، ثم سلّمه مجدداً إلى حكومة الحزب الشعبي المستمرة حتى 1 يونيو 2018م.  
وبدورنا، سنتخذ من سنتي 2009م و 2012م "علامتين" أو مؤشرين نأمل أن يخدما مدخلات ومخرجات ورقتنا التحليلية، بعيداً عن "ذاتية" الصحيفة المذكورة أو الوسائل الإعلامية، وسننظر إليهما كعلامتين "صغرى وكبرى"، ولكن ليس على التراجع الإسباني المزعوم في المنظومة الأوروبيةً، وإنما كذلك على تراجع أو انكماش اقتصادي داخلي قوي (نفت تلك الصحف وجوده) لم يربك المشهد السياسي في حينه، ولم يؤثر على الأداء الخارجي للحكومة، ولا على قرارات الاتحاد الأوروبي بشأن اسبانيا ونفوذها، مع الأخذ في الاعتبار أن انحسار دور الدول من عدمه غالباً ما يكون مرحلياً، يُعزى إلى صراعات داخلية، أو إلى عوامل اقتصادية، أو ايديولوجية، أو هيكلية، أو إليها كلها معاً، سننظر بما ترجع به على دور المملكة الاسبانية في منظومتها الاتحادية.

  
مـدخـــلات:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التراجع المشار إليه فيما يخص النفوذ الاسباني (اعتباراً من 2009 أو 2012)، بُنيَ على الرأي القائل بفقدان مناصب هامة تولتها شخصيات اسبانية في حينه، ويعتمد في ذلك على الحقائق التالية:
·        منذ 1986 تولت شخصيات اسبانية مناصب في المفوضيات الأوروبية، سبعة شخصيات اسبانية (4 من الحزب الشعبي و 3 من الحزب الاشتراكي العمالي) وثلاثة آخرون ترأسوا البرلمان الأوروبي (أنريكي بارون، من 1989 إلى 1992، و خوسي ماريا روبليس، من 1997 إلى 1999، و خوسيفبورّيل، من 2004 إلى 2007).
·        في الفترة من 1994 إلى 2004م تولى وزير الخارجية الاسباني السابق، "خابيير سولانا"، من الحزب الاشتراكي العمالي، رئاسة الأمانة العامة لحلف الناتو، ورئاسة المفوضية الأوروبية الخاصة بالشؤون الخارجية والأمنية.
·        الإدارة العامة لليونسكو، ترأسها السيد "فيديريكو مايور ساراغوسا" (من 1987 إلى 1999م) خلال فترة حكم الرئيس الاشتراكي العمالي "فيليبيغونساليس" (1982 – 1996).
·        تولي السيد "رودريغوراتو" (نائب رئيس الحكومة الاسبانية خلال فترة حكم "خوسي ماريا ازنار)إدارة صندوق النقد الدولي  (2004 - 2007م).

أ)- مرحلة الحكم الاشتراكي (مارس 2004 – ديسمبر 2011)

لم يحدث تراجع هام في الدور الاسباني في أوروبا بالرغم من الأزمة الاقتصادية (2004 – 2011) على مدى سبعة سنوات و 4 أشهر من حكم الرئيس الاشتراكي "ثاباتيرو"، حيث شهدت اسبانيا أحد أعنف أزماتها الاقتصادية، وربما مازالت آثارها مستمرة إلى يومنا هذا. تشير تقارير إلى أن الاقتصاد الاسباني كان مستقراً حينما وصل "ثاباتيرو" إلى سدة الحكم في شهر مارس 2004م. اسبانيا كانت تنمو بمعدل 3% تقريباً في الفترة بين 2001 و 2004، بينما لم تصل حتى إلى 0,1% بنهاية 2011م. في 2007 بدأت في الظهور مؤشرات انكماش اقتصادي لم يعترف بوجودها رئيس الحكومة "ثاباتيرو" حتى صيف 2008. وفي 2009 انخفض مستوى الاقتصاد الاسباني بنسبة 3,7%، وهي أعلى نسبة انكماش اقتصادي في 20 سنة. في السنتين التاليتين تعافى الاقتصاد نوعاً ما، ولكن ليس بالقدر الكافي كما حدث مع نظيرات اسبانيا في الاتحاد الأوروبي. تفاقمت معدلات البطالة خلال السبع سنوات الأولى، من 2.000.000 مع بداية حكمه إلى 4.800.000 فيما بعد، في الوقت الذي زادت فيه هشاشة الاقتصاد الوطني بسبب إصرار رئيس الحكومة على تمويل الدولة من خلال الاستدانة لسد العجز (الذي انتقل من 0,28%، إلى 11%) بينما بلغت الديون بنهاية 2010م 13,8% من الناتج المحلي، بعد أن كانت 1,7% في الربع الأول من عام 2004م.

ب)-مرحلة الحكم الشعبي (ديسمبر2011– يونيو 2018م)

فيما يخص حكومة الحزب الشعبي (الحزب الحاكم منذ 2012م وحتى تاريخه) برئاسة "ماريانوراخوي"، تصدرت اسبانيا سنة 2015م قائمة المناصب في الاتحاد الأوروبي، واحتلت المركز الرابع في قائمة الدول التي تضم أكبر عدد من المناصب القيادية في الهيئات الأوروبية المختلفة، فضلاً عن الحقائق التالية:
·        شغلت شخصيات اسبانية 13 منصباً، خلف ألمانيا (23 منصباً) والمملكة المتحدة (17) وإيطاليا (14) و أمام فرنسا (12). الترتيب المشار إليه اعتبرته المؤسسة الأوروبية Bruegel(وهي بمتابة "تينك تانك" اقتصادي أوروبي) اعتبرته مؤشرا على عدم فقدان اسبانيا لوزنها السياسي في وكالات الاتحاد الأوروبي.
·        مثّلاسبانيا 15 سفيراًأوروبياً، في المرتبة الثانية بعد فرنسا، ناهيك عن أن المدير التنفيذي لوكالة الدفاع الأوروبي هو الاسباني "خورخي دوميك"، وكان لها من قريب ممثل الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، "برناردينو ليون"، إلى جانب ممثلين اسبان اخرين في مختلف إدارات الأمم المتحدة. 
·        في 12 فبراير (2018م) تولت اسبانيا رئاسة لجنة الأمن التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبية وذلك لمدة سنة (مقرها فيينا، تضم 57 دولة، وهي بذا تكون أكبر منظمة أمنية اقليمية عالمياً). وفي 19 فبراير الماضي (2018) فاز وزير الاقتصاد الاسباني الحالي، "دي غيندوس" بمنصب نائب رئيس المصرف المركزي الأرووبي.
·        صنّف البنك الدولي إسبانيا في المرتبة 12 عالمياً، وآخرون في المرتبة 14، من بين 206 دولة، حيث شغلت عضوية غير دائمة بمجلس الأمن في الحكومة الشعبية الحالية PP، مقارنة بالمنصب الذي شغلته كعضو مراقب في مجموعة العشرين G20 في عهد "ثاباتيرو" (2004- 2011)،  وبعهد الرئيس الاشتراكي "فيلييبيغونساليس" (1982 إلى 1996) والرئيس الشعبي "أزنار" (1996 إلى 2004) وهما حكام ما يعرف بـ عهد السياسة الخارجية "الذهبي" (1985 - 2000) وهي الفترة التي تلخص دخول اسبانيا للاتحاد الأوروبي، ثم تبنّيها لعملة اليورو، الخ.

كل ذلك تزامن مع مشاكل اقتصادية رافقت الحكومة الحالية، حكومة "ماريانوراخوي"، من بينها مشاكل متعلقة باستثمارات شركاتها في بوليفيا والأرجنتين وفنزويلا، وبعض الدول العربية، من بينها ليبيا، واستثماراتها النفطية فيها، الخ، ناهيك عن مشاكل متعلقة بالديون الاسبانية، بلغ صافيها الخارجي نسبة 90% من الناتج المحلي الاجمالي، أي بنسبة تتجاوز 35% الحد الأقصى الذي تشترطه المفوضية الأوروبية، حيث تقبع في المرتبة السادسة بين الدول ذات أكبر نسبة من الدين العام في النصف الثاني من سنة 2016م (100,5% من اجمالي الناتج المحلي)، وهي نسبة فاقت متوسط الاتحاد التي لا تتجاوز 84,3% حسب المكتب الاحصائي للإتحاد الأوروبي، ما جعل الاتحاد ينظر إلى الاقتصاد الاسباني بمعيار الاقتصاديات الهشة مقارنة ببقية دول العالم.
وفي إطار "تصحيح" الخلل، سعت اسبانيا مؤخراً إلى شغل منصب نائب البنك المركزي الأوروبي، بترشيح الحكومة الاسبانية لوزير الاقتصاد الحالي، "لويس دي غيندوس" الذي فاز بتاريخ 19 فبراير 2018 بالمنصب المذكور، علماً بأن السيد "دي غيندوس" كان مرشحاً اصلاً لرئاسة "اليورغروب"، Eurogroup، ولكنه خسرها لصالح وزير المالية البرتغالي، السيد "ماريو سانتينو" في ديسمبر 2017م نتيجة ربما ترجيح كفة الاشتراكيين على حساب الشعبيين في البرلمان الأوروبي، أو توافقات مؤقتة أدت إلى تلك النتيجة.

ب -1) تأثير المنظومة الأوروبية على المشاركة الاسبانية خلال الحكومة الحالية:

المجلس الأوروبي (الذي يجمع 27 رئيس دولة أو حكومة، زائد رئيس المجلس نفسه ورئيس المفوضية الأوروبية، أي 29) تحكمه خمسة أحزاب سياسية (إلى جانب عضوين مستقلين): عدد (9) نواب ينتمون للحزب الشعبي الأوروبي PPE، و(8) منهم من الحزب الاشتراكي الأوروبي PSE و (7) من مجموعة تحالف الليبراليين والديمقراطيين الأوروبيين ALDE، و (2) من الحزب المحافظ والإصلاحي الأوروبي CRE، عدد (2) مستقلين، و(1) ممثلاً عن مجموعة الكونفدرالية اليسارية الاتحادية الأوروبية واليسار الأخضر الأسكندنافيGUE-NGL.
اعتباراً من 23/6/2016 اتخذ الاتحاد الأوروبي مساراً جديدا غيّر الوضع السياسي والإقليمي له، فهو التاريخ الذي قرر فيه البريطانيون الخروج من الاتحاد. ذاك الانسحاب من الاتحاد، مضاف إليه الانتخابات التي شهدتها هولندا وبلغاريا وكرواتيا، اسهمت في تغيير المشهد الاتحادي إلى الحد الذي حدث فيه تغيير في المجلس الأوروبي، وبالتالي في تشكيلة من يحكم في أوروبا من بين المجموعات السياسية التي يتشكل منها المجلس، والتي تتنافس فيما بينها، ليبراليين، اشتراكيين، ديمقراطيين مسيحيين أو محافظين. الترشيحات للمناصب الأوروبية يعتمد كثيراً على هذه التجاذبات والتنافس بين المجموعات الأيديولوجية في صدر البرلمان، ويهيمن "الحزب الشعبي الأوروبي"، وهو حزب يمين وسط، محافظ وليبيرالي، تقوده احزاب ديمقراطية مسيحية في الأصل (الألماني، والجمهوريون الفرنسيون والحزب الشعبي الاسباني) على البرلمان الأوروبي (217 نائب - فبراير 2017م)، أي ما يعني هيمنة الديمقراطيين المسيحيين، من خلال النواب التسعة. صراع توازن أيديولوجي ربما، بين يسار ويمين في البرلمان الأوروبي (مسؤول عن انخفاض أو ازدياد حصص المناصب) باعتبار أن النواب الأوروبيين يتآلفون وفق الانتماءات السياسية وليس الجنسيات، مما قد يكون سبباً في وصول وزير الاقتصاد الاسباني "لويس دي غيندوس" إلى منصب نائب المصرف المركزي الأوروبي في بداية الشهر الجاري. من هنا تفسير التراجع النسبي، وليس بشكل دائم، كما أشارت تلك الصحيفة،التي تنبأت أيضاً بخسارة وزير الاقتصاد الاسباني المذكور، مرشح الحكومة الحالية.
وفي الختام، فبالرغم من الانفراج في العلاقة الاسبانية داخل المنظومة الأوروبية  التي رفعت سقف مؤشر النمو الاسباني نقطة كاملة في 7 فبراير الماضي (من 2,5% في نوفمبر 2017م إلى 2,6% في فبراير 2018م) وبالرغم من تأثيرات أزمة كاتالونيا (التي إذا عادت للظهور من جديد فإنها حتما ستؤدي إلى مزيد من الآثار العكسية) إلا أن التحسن الاقتصادي لم يكن "بالمستوى" الذي أشارت إليه الصحف المعنية (بسبب ديون اسبانيا، ومشاكلها الداخلية، وتأثيرات ترامب).

مخرجات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عملية الحصول على مناصب دولية يتطلب "استراتيجية وجهد مستديم ومشترك" وقدرة من طرف اسبانيا لاستعراض مهاراتها وتفاعلها مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وإدارة مصالحها، في إطار سياسة خارجية واقعية بعيداً عن سياسة العزلة التي يرتمي فيها رئيس الحكومة الشعبية ووزير خارجيته، المشتهرين بالانهماك في السياسة الداخلية على حساب الأولى، وخاصة في مرحلة تغيير هامة في كنف الاتحاد.
كما يتطلب الأمر، وبشكل موازي، توافقاً فيما بين الأحزاب داخلياً، وهو ما لم يحدث بشكل مكتمل في اسبانيا، وخاصة في 2016 و 2017م. وعلى سبيل المثال لا الحصر أدت الصراعات الداخلية بين الحزبين الرئيسيين، الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العمالي، وانعدام التوافق بينهما، والاتهامات المتبادلة حول مسائل الفساد وسوء إدارة الأزمة الاقتصادية، إلى خسارة اسبانيا لمقعد في اللجنة التنفيذية للمصرف المركزي الأوروبي في 2015م لصالح المرشح من لكسمبورغ. وفي 2014م صوّت الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني ضد وزير الزراعة الاسباني السابق "ميغيل كانييتي" (مرشح الحزب الشعبي) لشغل منصب المفوض الأوروبي لشؤون الطقس والطاقة، ولم يحرك اصبعاً واحداً (حسب اتهامات الحزب الشعبي له) لحث الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين على دعم وزير الاقتصاد الاسباني، "لويس دي غيندوس" لشغل منصب مدير المصرف المركزي الأوروبي، وخسارته لرئاسة "اليوروغروب" في 2017م. ولكنهناكحالتان اثبت فيهما الوفاق بين الحزبين والإجماع نجاحه، وهي عندما تعلق الأمر بالترشح الإسباني للعضوية غير الدائمة لمجلس الأمن بالأمم المتحدة، التي بدأها الرئيس "ثاباتيرو" (2004 – ديسمبر 2011م) وأنهاها الرئيس "راخوي" (2012 – حتى تاريخه).
ذلك الصراع الحزبي ربما كان له دور في تعميق أزمة التمثيل الخارجي لإسبانيا، ولو بشكل مؤقت وخلال مرحلة قصيرة، ولم تهدأ وتيرة التنافس بينهما إلا بعد أزمة كاتالونيا (اكتوبر 2017) وإعلان الاستقلال من طرف واحد من قبل حكومة الاقليم، حيث أحسّا بضرورة توحيد الصفوف حفاظا على مصالحهما واستمرارية هيمنتهما على المشهد السياسي، من باب "الإكراه، لا البطولة".

الثقة ودفة السياسة
(02/06/2018)



تمكن الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني برئاسة "بيدروسانتشيث" صباح يوم 2018.06.01م من الاطاحة بحكومة "ماريانوراخوي"(الحزب الشعبي الحاكم منذ 2012م) وذلك اثر جلسة تصويت برلمانية لحجب الثقة عن الرئيس الحالي، على خلفية فضيحة متعلقة بشبكة فساد مرتبطة بشخصيات من الحزب الشعبي الحاكم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التشريع الإسباني يسمح بتولي الرئاسة بعد عملية حجب ثقة بدون اللجوء إلى انتخابات ولا صناديق اقتراع ولا تصويت، بعد نشر القرار في الصحيفة الاسبانية الرسمية وإحاطة ملك اسبانيا مباشرة، وهو ما تأتى في يوم وليلة فقط (2 يونيو 2018م).

منذ أن انتشرت فضائح الفساد، ومنذ أن عَلِم بانهيار شعبية "ماريانوراخوي" في استطلاعات الرأي المتكررة، نتيجة تلك الفضائح ونتيجة سوء التعامل مع قضية انفصال كاتالونيا، عَمل "بيدرو سانتشث" على نسج تحالفات خفية وسريعة مع "خصوم لدودين" فيما مضى، من بينهم حزب اليسار الجمهوري الكاتالاني والحزب الديمقراطي الكاتالاني الانفصاليين، ومع حزب "بوديموس" الشعبوي اليساري ذو الروابط الفنزويلية وربما الروسية (الذي سارع زعيمه "بابلو اغليسياس" إلى مطالبة الحكومة الجديدة بتشكيل حكومة  ائتلاف في محاولة سادجة لجعلها تنحرف عن مسارها الاشتراكي التقليدي بما يخدم مشروعه "التقدمي" وأهدافه)  وتجمعBildu  (ائتلاف انفصالي من الباسك) وحتى مع الحزب الوطني لإقليم الباسك (PNV) المتهم بجرائم ارهابية منذ تأسيسه والذي رفضت الحكومة المنهارة منحهم العفو رغم حل التنظيم مؤخراً، ليصبح السيد "سانتشيث" الرئيس السابع للحكومة الاسبانيه، لأول مرة إثر عملية سحب ثقة تتم بنجاح (في 40 سنة ديمقراطية).

بالنسبة لكاتالونيا، فإن موقف الحكومة الجديدة - ظاهرياً على الأقل- هو رفض أي انفصال أو أي مساس بالدستور الاسباني، مع التأكيد على جرم "بويجديمونت" الفار إلى بلجيكا ثم ألمانيا. من جهة أخرى، تزامنت مراسم تنصيب الرئيس الجديد مع مراسم تشكيل الرئيس الكاتالاني"كيم تورّا"، لحكومته الإقليمية الجديدة متنبئا في خطابه بنهاية المادة 155، بعد 7 اشهر متواليه من تطبيقها، واعداً بالمضي قدما لتحقيق "الجمهورية الكاتالانيه" وبالإفراج عن المحتجزين والفارين من المسؤولين في الحكومة الكاتالانية السابقة، مضيفاً أنه سوف يمضي في نفس الطريق الديمقراطي الذي سلكه خليفته "بويجديمونت"، المطارد من قبل السلطات المركزية، وأن فريق عمله سيضع نصب عينيه هدف تحقيق "الدولة المستقلة" حسب ما أملاه استفتاء الشارع الكاتالاني في 1 اكتوبر 2017م، والذي صادقت عليه وأكدته انتخابات 21 ديسمبر من نفس السنة، مقترحاً على رئيس الحكومة الإسبانية الجديد إدارة الحوار بين الحكومتين. 

مبدئياً يشاع أنه لربما قام "بيدروسانتشث" بالتعهد للكاتالونيين "برفع الرقابة المالية على حكومتهم" الذي فُرِض عليها عام 2015 من قِبل حكومة "ماريانوراخوي"، ولكن حتى وإن صحّ هذا، فما هو إلا البداية لمشهد اسباني جديد، قد تكون من ضمن أجزائه تعديلات على الدستور أو النظام الإداري للملكة الاسبانية، وهو أمر قد لا تقوى عليه الحكومة الجديدة لوحدها دون دعم شعبي عارم.

لقد تأتّى للسيد "بيدروسانتشيث" ذلك النجاح بفضل تآمره على حكومة "راخوي" مع خصومه في الماضي وخصوم الحزب الشعبي، وخصوم وحدة التراب الاسباني، بتحالفاته المذكورة سالفًا، فيما يعتبر تحالفاً غريباً قد تتبعه نتائج ربما تمس باستقرار اسبانيا فيما بعد، اذا اخذنا في الاعتبار مطالب كل منهم و"فاتورة الحساب" التي قد يعرضونها على الرئيس الجديد مستقبلا، مقابل الدعم الذي قدموه له صباح ذاك اليوم من أجل تمرير قرار سحب الثقة وتنصيبه رئيسا جديداً.

مستقبل اسبانيا مرهون بنضوج الحزب الشعبي (PP) في دوره الجديد كمُعارض وعلى مدى التقارب مستقبلا مع الحزب الاشتراكي الحاكم منذ يوم أمس، لإنقاذ هذا الأخير من مغبّة تحالفاته ومن "تمسكُنِ" أحزاب تلك التحالفات التي تتقنص الفرصة لتأتي برياح قد لا تشتهيها اسبانيا، مما قد يجعل الرجوع إلى فلك الثنائية الحزبية والوفاق بين الحزبين التقليديين (PP + PSOE) في الظروف الحالية أسلم من الجري على انفراد وراء الرئاسة بهذه الطريقة، رغبةً في الحكم بأي طريقة.

 (02/06/2018) A.M

كاتالونيا..

(1"ما وراء مطلب الانفصال" 
(21/12/2017)

في إطار الأزمة السياسية في اسبانيا، وعلى خلفية مطالب إقليم "كاتالونيا" "بالإستقلال" (لتأسيس جمهورية كاتالونيا)، من خلال استفتاء شعبي أُجرِي بالخصوص في أول اكتوبر 2017م، جرت يوم الخميس الماضي، 21 ديسمبر 2017، انتخابات في البرلمان الكاتالاني بين الأحزاب والقوى السياسية الداعية إلى الاستقلال عن اسبانيا والأحزاب السياسية التي تدعو إلى وحدة التراب الإسباني وتطبيق الدستور. وكانت الحكومة الاسبانية قد اعتبرت الاستفتاء المذكور لاغياً دستورياً، ثم تدخلت في الاقليم وفقا للمادة 155 منه، حفاظا على وحدة التراب الاسباني، وعوضت عن ذلك الاستفتاء بانتخابات برلمانية في الاقليم الخميس الماضي، لإعادة تشكيل حكومة جديدة مختلفة عن تلك المسؤولة عن الاستفتاء الاستقلالي في كاتالونيا، بعد أن فرّ رئيس حكومتها "بويجديمونت" إلى بلجيكا ووُضِع في السجن عدد آخر من اعضاء حكومته الكاتالانية.

وبالرغم من تفوّق مرشّحة حزب "مواطنون" Cs (اللا-انفصالي) في عدد الأصوات في انتخابات يوم الخميس (25,37%) ما يعني الحصول على 37 مقعد في البرلمان الكاتالاني الجديد، إلا أن تفوّق حزب "مواطنون" لا يضع حدا لهيمنة القوى القومية الانفصالية، خاصة وأن القانون الانتخابي الاسباني يضاعف من عدد الأصوات المحرزة في الريف، وهي مناطق تسود فيها أصوات الانفصاليين بقدر أكبر من المدن، ناهيك عن أن الأحزاب المطالبة "بالاستقلال عن اسبانيا" تحصلت على نسبة أصوات تؤهلها لشغل 70 مقعدا (حزب رئيس كاتالونيا القابع في بلجيكا، حزب "معاً من أجل كاتالونيا"  JxC تحصل على 34 مقعدا، وحزب اليسار الجمهوري الكاتالاني ERC (القابع زعيمه "خونكيراس" في السجن لنفس الأسباب) على 32 مقعد، وحزب اليسار المتطرف "الاتحاد الشعبي" CUP على 4 مقاعد)، بينا تحصل حزب "كاتالونيا المشتركة-بوديموس" المذبذب في انحيازه، على 8 مقاعد بدلا من 11 مقعد كان تحصل عليها عام 2015، وذلك بسبب تلكؤ حليفه "بوديموس" (قادرون) في اتخاذ موقف من عملية الانفصال عن اسبانيا (لأسباب قد ياتي ذكرها في بحث وتقرير مستقبلي)، مما أفقده انصاراً من بين الناخبين الدستوريين.   

وبالتالي فإن هذه النتائج قد تؤهل رئيس حكومة اقليم كاتالونيا السابق "بويجديمونت" للإستمرار في "مشروعه"، وإعادة تشكيل البرلمان، أو حتى نظرياً لإعلان نفسه رئيسا "من جديد" لحكومة كاتالونيا، وفعلياً في حالة الرجوع إلى اسبانيا والإفلات من السجن والتوصل إلى اتفاق مع رئيس الحكومة الاسبانية، بل وتمنح الاحزاب المطالِبة بالاستقلال في مجموعها (إذا اتفقت) القدرة على الهيمنة على البرلمان الكاتالاني. 

وفيما يخص الدستوريين، دعاة الوحدة، بمن فيهم الحزب الشعبي الحاكم PP، فقد منيوا بخسارة فادحة، إذا استثنينا من بينهم حزب "مواطنون كما اشرنا أعلاه (37 مقعدا)، حيث لم يتحصل الحزب الشعبي الحاكم في اسبانيا إلا على 3 مقاعد، والحزب الاشتراكي الكاتالاني PSC على 17، بما مجموعه 57 مقعدا  (11 مقعد يفصلها عن الأغلبية 68)،

عجز الحكومة المركزية عن كبح جماح الاستقلاليين وعن اجراء تحالفات أو ائتلافات ذات جدوه قد يحملها على التفكير في اللجوء إلى التدخل مجددا عن طريق "المادة 155" لإلغاء ما أسفرت عنه الانتخابات، وهو أمر خطير إن فعلت، باعتبارها انتخابات "ديمقراطية" ولا غبار عليها في نظر الجميع وبمقاييس الإتحاد الأوروبي والغرب عموما، والأهم من ذلك كله في نظر كبار الشركات الأوروبية التي تربطها بحكومة كاتالونيا علاقات قوية، تصل إلى درجةٍ تمكنها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بافتراض استقلالها عن اسبانيا، مع العلم أنه، على الواقع، اكثر من 3.000 شركة تفكر جديا في مغادرة كاتالونيا، بسبب نتيجة هذه الانتخابات.

في ذات الوقت، وبشكل موازٍ، وبعيدا ايضا عن العالم الافتراضي، يفكر زعيم الحزب الاستقلالي "بويجديمونت" في توكيل من ينوبه في حكم الاقليم فترة تواجده خارج اسبانيا، غير أن البرلمان يشترط حضوره الشخصي، وهو ما جعله حاليا يوافق على مقابلة رئيس الحكومة الاسبانية للتفاوض، ولكن "بلا شروط" على حد قوله، وذلك لعلمه بأن رجوعه يعتمد على قرار من المحكمة العليا. استمرارية الحكومة الكاتالونية يعتمد على موقف النواب الاستقلاليين الفائزين من عملية الانفصال أو الاستقلال من عدمه اعتبارا من الآن.

تعليق ختامي:
لا يُستبعد أن تكون اسبانيا ضحية لمؤامرة خارجية بتواطؤ من عناصر داخلية شعبوية وديماغوجية، تريد أن تنال اليوم من وحدة اسبانيا، ومن الوئام الاجتماعي في كاتنالونيا كما نالت فيما سبق من دول في أمريكا اللاتينية، فطالت في بداية الألفية الثانية فنزويلا وبوليفيا والأرجنتين والاكوادور، ونشرت الخراب والفتن والعنصرية والتفكك الاجتماعي، كما هو الحال في عالمنا بانتصاف الألفية الثانية كذلك. ولا يفوتنا هنا التذكير بالاتهام الذي وجهته وزيرة الدفاع الاسبانية، "ماريا دولوريس دي كوسبيدال"، في نوفمبر الماضي إلى كل من روسيا وفنزويلا بمحاولاتهم التدخل في الأزمة الكاتالانية، والتأثير إعلاميا بهدف "زعزعة استقرار اسبانيا"، وهو ما يتيح لنا الخلاص إلى مخرجات سياسية بالخصوص:

النزاع والخلاف الفنزويلي الاسباني يعود إلى أسباب اقتصادية تجارية في بادئ الأمر منذ عهد "تشافيز"، ثم لتأييد الحكومة الاسبانية للمعارضة الفنزويلية ضد الدكتاتور الفنزويلي الحالي "مادورو" في الأحداث الأخيرة في منتصف هذا العام. رأس الحربة الفنزويلية في اسبانيا يتمثل في حزب "بوديموس" (قادرون)، حديث العهد بالمشهد السياسي، حيث تأسس عام 2014، ذو العلاقة الوطيدة بالحكومة الفنزويلية، إلى الحد الذي إتًهم فيه باستلام ملايين الدولارات من فنزويلا في حملاته وانشطته السياسية، وبعلاقته بالحزب الذي يحمل نفس الاسم في فنزويلا (منذ 2002)، وبدفاعه المستميت عن أعمال العنف والجرائم التي يقترفها الرئيس الفنزويلي "مادورو" ضد الشعب الأعزل الذي مازال يكافح ضد الديكتاتورية الشرسة، وحتى بتقربه من إيران، وانحيازه لروسيا ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وبعزوفه خلال استفتاء كاتالونيا عن الإدلاء برأيه ضد الإنفصاليين، وانتهاج سياسة شعبوية ديماغوجية تخرج عن الطور الديمقراطي والسلمي عموما منذ تأسيسه.

فيما يخص التدخل الروسي، فهو قد لا يكون مباشر ولكنه مؤثر إن وُجد، ويذكرنا عن قريب باتهامات "ديمقراطيّو" الولايات المتحدة الأمريكية لها بالتأثير في الانتخابات الأمريكية لترجيح كفة الرئيس "دونالد ترامب" ضد "هيلاي كلينتون". المسببات الروسية قد تكون ذات علاقة بأزمة شرق أوروبا، والاجتياح الروسي لأوكرانيا، والعقوبات المفروضة عليها في حينه من قِبل الاتحاد االأوروبي، وتحديدا بدور ممثلو الحزب الشعبي الحاكم حاليا في اسبانيا PP، والحزب الاشتراكي العمالي الاسباني PSOE، وحزب الوفاق والوحدة CiU المستنكرة للتدخل الروسي في أوكرانيا، بعكس حزب "اليسار الموحد" IU، وحزب "بوديموس" (المشار إليه أعلاه) اللذين استحسنا التدخل الروسي، وأيدا المبررات التي قدمتها روسيا في هذا الخصوص، انطلاقا من حرص حزب "بوديمس" الطبيعي على "التقارب الجيوسياسي" مع روسيا وتوجيه الانتقادات باستمرار لدور للاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الروسية، وهو ما يؤيد "نظرية المؤامرة" (الافتراضية حاليا) فيما يتعلق بمحاولات "بوديموس" اليائسة للوصول إلى السلطة وتشكيل حكومة موالية لروسيا على غرار بعض من ذكرنا سابقا من دول العالم النامي الشعبوية والديماغوجية. 

 أما بريطانيا فهناك روابط تاريخية تجمع بين برشلونة ولندن، يعود أصلها إلى "حرب الخلافة على العرش الاسباني" ببداية القرن الثامن عشر، والتي تآمرت فيها إنجلترا ضد تاج اسبانيا البربوني القشتالي لصالح تاج "أراغون" الكاتالاني، فقادت اسبانيا إلى حرب أهلية حقيقية، انتهت بفقدان الأراغونيين والكاتالانيين لحقوقهم ومزاياهم التاريخية (هذا التاريخ يتخذه الانفصاليون اليوم ذكرى لسقوط برشلونة في أيدي ملوك البربون، بزعامة فيليبي الخامس عام 1714م). 

بريطانيا (ما بعد "البريكسيت") في حال انفصال كاتالونيا، وفي حال تغلّبت على الاتحاد الأوروبي وشركاته التي تحاول الاستئثار ببرشلونة داخله، وعلى الجاذبية الروسية والصينية، فقد يتحول الإقليم إلى "جبل طارق" جديد، و "كومنولث"، أو إلى مركز للشركات البريطانية، يسمونه البريطانيون بالـ "سيتي" City. 
   
لا يجب على الحكومة الاسبانية أن تترك "كاتالونيا" لقمة سائغة للمتدخلين الخارجيين ولا للقوى السياسية والعقول المدِّبرة من وراء الكواليس، ولا أن تتركها تتحول إلى "لومبارديا" أخرى يُستَغلّ فضلها على الأقاليم المتخلفة لبث الفرقة وتأجيج النزعة الانفصالية وبعث الخلاف القديم. لا نعتقد أن الإنفصاليين سيفترون، بل أن اسبانيا فتحت على نفسها باباً عواقبه غير معلومة التقاسيم ما لم تدخل اصلاحات وتعديلات "هيكلية" في نظامها الاقتصادي والمالي، وربما الإداري، بما يرضي كل الأقاليم. نعلم أن القضية تاريخية منذ القديم، ولكن لا ننسى أن الوئام والاستقرار داما بالرغم من ذلك بسبب السياسات التوفيقية منذ حلول الديمقراطية على اسبانيا وإلى حين تفجر الأزمة منذ قليل. 

لم نرَ حكومة الحزب الشعبي الحاكم تلجأ إلى معالجة الأسباب، بل رأيناها تجدّ في التركيز على التأثيرات. رأيناها مستمرة في حصد نقمة الانفصاليين وذهول المراقبين والمحايدين، جادّة في فرض الوحدة على الإقليم بجزع مفرط ما زادها إلا خبالاً وتأنيباً، بدلا من تغليب التوافق والوفاق السليم والحلول ذات البعد الطويل، بتسوية الأمور التي ساهمت بشكل غير مباشر كعوامل مساعدة في تأجيج مطالب الانفصال لدى الاستقلاليين، وهي بالدرجة الأولى أمور متعلقة بالاقتصاد والضرائب التي رأوها مجحفة في حقهم كإقليم مساهمته كبيرة في اجمالي الدخل القومي الاسباني باعتباره إقليم يحمل على كاهله مسؤولية تمويل عجز الأقاليم المتخلفة نسبيا من ناحية انتاجية بشكل يكاد يكون مستديم. 



كُتبت هذه المقالة في 21 ديسمبر 2017م 
الثقة و السياسة
 02/06/2018



تمكن الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني برئاسة "بيدروسانتشيث" صباح يوم 2018.06.01م من الاطاحة بحكومة "ماريانوراخوي"(الحزب الشعبي الحاكم منذ 2012م) وذلك اثر جلسة تصويت برلمانية لحجب الثقة عن الرئيس الحالي، على خلفية فضيحة متعلقة بشبكة فساد مرتبطة بشخصيات من الحزب الشعبي الحاكم.
وكتتويج لجهود الاشتراكي "بيدروسانتشيث" من أجل الإطاحة بـ "ماريانوراخوي"منذ أن انتشرت فضائح الفساد، ومنذ أن عَلِم بانهيار شعبية "ماريانوراخوي" في استطلاعات الرأي المتكررة، نتيجة تلك الفضائح ونتيجة سوء التعامل مع قضية انفصال كاتالونيا، عَمل على نسج تحالفات خفية وسريعة مع "خصوم لدودين" فيما مضى، من بينهم حزب اليسار الجمهوري الكاتالاني والحزب الديمقراطي الكاتالاني الانفصاليين، ومع حزب "بوديموس" الشعبوي اليساري ذو الروابط الفنزويلية وربما الروسية، وتجمعBildu  (ائتلاف انفصالي من الباسك) وحتى مع الحزب الوطني لإقليم الباسك (PNV) المتهم بجرائم ارهابية منذ تأسيسه والذي رفضت الحكومة المنهارة منحهم العفو رغم حل التنظيم مؤخراً،ليصبح السيد "سانتشيث" الرئيس السابع للحكومهالاسبانيه، لأول مرة إثر عملية سحب ثقة تتم بنجاح (في 40 سنة ديمقراطية).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التشريع الإسباني يسمح بتولي الرئاسة بعد عملية حجب ثقة بدون اللجوء إلى انتخابات ولا صناديق اقتراع ولا تصويت، بعد نشر القرار في الصحيفة الاسبانية الرسمية وإحاطة ملك اسبانيا مباشرة، وهو ما تأتى في يوم وليلة فقط (2 يونيو 2018م).
وما أن تولى "بيدروسانتشيث" منصبه في 2018.06.02 حتى سارع "بابلو اغليسياس" زعيم حزب "بوديموس"المذكور، بمطالبة الحكومة الجديدة بتشكيل حكومة  ائتلاف، معللاً ذلك بأن الحزب الاشتراكي بنوابه الـ 84 بحاجة الى أن يشد عضده بمزيد من النواب، مقترحاً على الحكومة الجديدة الاضطلاع بدور سياسي "تقدمي" جديد، بعيداً عن القطبية التقليديةعلى حد قوله، وهو ما نفته الناطقة البرلمانية للحزب الاشتراكي، السيدة"روبليس".
بالنسبة لكاتالونيا، فإن موقف الحكومة الجديدة- ظاهرياً على الأقل- هو رفض أي انفصال أو أي مساس بالدستور الاسباني، مع التأكيد على جرم "بويجديمونت" الفار إلى بلجيكا ثم ألمانيا. من جهة أخرى، تزامنت مراسم تنصيب الرئيس الجديد مع مراسم تشكيل الرئيس الكاتالاني"كيم تورّا"، لحكومته الإقليمية الجديدة متنبئا في خطابه بنهاية المادة 155، بعد 7 اشهر متواليه من تطبيقها، واعداً بالمضي قدما لتحقيق "الجمهورية الكاتالانيه" وبالإفراج عن المحتجزين والفارين من المسؤولين في الحكومة الكاتالانية السابقة، مضيفاً أنه سوف يمضي في نفس الطريق الديمقراطي الذي سلكه خليفته "بويجديمونت"، المطارد من قبل السلطات المركزية، وأن فريق عمله سيضع نصب عينيه هدف تحقيق "الدولة المستقلة" حسب ما أملاه استفتاء الشارع الكاتالاني في 1 اكتوبر 2017م، والذي صادقت عليه وأكدته انتخابات 21 ديسمبر من نفس السنة، مقترحاً على رئيس الحكومة الإسبانيةالجديد إدارة الحوار بين الحكومتين.
مبدئياً يشاع أنه لربما قام "بيدروسانتشث" بالتعهد للكاتالونيين" برفع الرقابة المالية على حكومتهم" الذي فُرِض عليها عام 2015 من قِبل حكومة "ماريانوراخوي"، ولكن حتى وإن صحّ هذا، فما هو إلا البداية لمشهد اسباني جديد، قد تكون من ضمن أجزائه تعديلات على الدستور أو النظام الإداري للملكة الاسبانية، وهو أمر قد لا تقوى عليه الحكومة الاشتراكية الجديدة وحدها دون دعم شعبي عارم. 
لقد تأتّى للسيد "بيدروسانتشيث" ذلك النجاح بفضل تآمره على حكومة "راخوي" مع خصومه في الماضي وخصوم الحزب الشعبي، وخصوم وحدة التراب الاسباني، بتحالفاته المذكورة سالفًا، فيما يعتبر تحالفاً غريباً قد تتبعه نتائج ربما تمس باستقرار اسبانيا فيما بعد، اذا اخذنا في الاعتبار مطالب كل منهم و"فاتورة الحساب" التي قد يعرضونها على الرئيس الجديد مستقبلا، مقابل الدعم الذي قدموه له صباح ذاك اليوم من أجل تمرير قرار سحب الثقة وتنصيبه رئيسا جديداً.
قد يعتمد مستقبل اسبانيا الموحَّد على نضوج الحزب الشعبي (PP) في دوره الجديد كمعارض، وعلى مدى التقارب مستقبلا مع الحزب الاشتراكي الحاكم منذ يوم أمس، لإنقاذ هذا الأخير من مغبّة تحالفاته ومن "تمسكُنِ" أحزاب تلك التحالفات التي تسعى للانقضاض على السلطة في اسبانيا، بينما هي في طريقها إلى أكل الثور الأسود ظناً منها أن الثور الأبيض مات.
الرجوع إلى فلك الثنائية الحزبية، والوفاق بين الحزبين التقليديين، ربما كان أسلم من الجري على انفراد وراء الرئاسة بهذه الطريقة، رغبةً في الحكم بأي طريقة.