كاتالونيا..

(1"ما وراء مطلب الانفصال" 
(21/12/2017)

في إطار الأزمة السياسية في اسبانيا، وعلى خلفية مطالب إقليم "كاتالونيا" "بالإستقلال" (لتأسيس جمهورية كاتالونيا)، من خلال استفتاء شعبي أُجرِي بالخصوص في أول اكتوبر 2017م، جرت يوم الخميس الماضي، 21 ديسمبر 2017، انتخابات في البرلمان الكاتالاني بين الأحزاب والقوى السياسية الداعية إلى الاستقلال عن اسبانيا والأحزاب السياسية التي تدعو إلى وحدة التراب الإسباني وتطبيق الدستور. وكانت الحكومة الاسبانية قد اعتبرت الاستفتاء المذكور لاغياً دستورياً، ثم تدخلت في الاقليم وفقا للمادة 155 منه، حفاظا على وحدة التراب الاسباني، وعوضت عن ذلك الاستفتاء بانتخابات برلمانية في الاقليم الخميس الماضي، لإعادة تشكيل حكومة جديدة مختلفة عن تلك المسؤولة عن الاستفتاء الاستقلالي في كاتالونيا، بعد أن فرّ رئيس حكومتها "بويجديمونت" إلى بلجيكا ووُضِع في السجن عدد آخر من اعضاء حكومته الكاتالانية.

وبالرغم من تفوّق مرشّحة حزب "مواطنون" Cs (اللا-انفصالي) في عدد الأصوات في انتخابات يوم الخميس (25,37%) ما يعني الحصول على 37 مقعد في البرلمان الكاتالاني الجديد، إلا أن تفوّق حزب "مواطنون" لا يضع حدا لهيمنة القوى القومية الانفصالية، خاصة وأن القانون الانتخابي الاسباني يضاعف من عدد الأصوات المحرزة في الريف، وهي مناطق تسود فيها أصوات الانفصاليين بقدر أكبر من المدن، ناهيك عن أن الأحزاب المطالبة "بالاستقلال عن اسبانيا" تحصلت على نسبة أصوات تؤهلها لشغل 70 مقعدا (حزب رئيس كاتالونيا القابع في بلجيكا، حزب "معاً من أجل كاتالونيا"  JxC تحصل على 34 مقعدا، وحزب اليسار الجمهوري الكاتالاني ERC (القابع زعيمه "خونكيراس" في السجن لنفس الأسباب) على 32 مقعد، وحزب اليسار المتطرف "الاتحاد الشعبي" CUP على 4 مقاعد)، بينا تحصل حزب "كاتالونيا المشتركة-بوديموس" المذبذب في انحيازه، على 8 مقاعد بدلا من 11 مقعد كان تحصل عليها عام 2015، وذلك بسبب تلكؤ حليفه "بوديموس" (قادرون) في اتخاذ موقف من عملية الانفصال عن اسبانيا (لأسباب قد ياتي ذكرها في بحث وتقرير مستقبلي)، مما أفقده انصاراً من بين الناخبين الدستوريين.   

وبالتالي فإن هذه النتائج قد تؤهل رئيس حكومة اقليم كاتالونيا السابق "بويجديمونت" للإستمرار في "مشروعه"، وإعادة تشكيل البرلمان، أو حتى نظرياً لإعلان نفسه رئيسا "من جديد" لحكومة كاتالونيا، وفعلياً في حالة الرجوع إلى اسبانيا والإفلات من السجن والتوصل إلى اتفاق مع رئيس الحكومة الاسبانية، بل وتمنح الاحزاب المطالِبة بالاستقلال في مجموعها (إذا اتفقت) القدرة على الهيمنة على البرلمان الكاتالاني. 

وفيما يخص الدستوريين، دعاة الوحدة، بمن فيهم الحزب الشعبي الحاكم PP، فقد منيوا بخسارة فادحة، إذا استثنينا من بينهم حزب "مواطنون كما اشرنا أعلاه (37 مقعدا)، حيث لم يتحصل الحزب الشعبي الحاكم في اسبانيا إلا على 3 مقاعد، والحزب الاشتراكي الكاتالاني PSC على 17، بما مجموعه 57 مقعدا  (11 مقعد يفصلها عن الأغلبية 68)،

عجز الحكومة المركزية عن كبح جماح الاستقلاليين وعن اجراء تحالفات أو ائتلافات ذات جدوه قد يحملها على التفكير في اللجوء إلى التدخل مجددا عن طريق "المادة 155" لإلغاء ما أسفرت عنه الانتخابات، وهو أمر خطير إن فعلت، باعتبارها انتخابات "ديمقراطية" ولا غبار عليها في نظر الجميع وبمقاييس الإتحاد الأوروبي والغرب عموما، والأهم من ذلك كله في نظر كبار الشركات الأوروبية التي تربطها بحكومة كاتالونيا علاقات قوية، تصل إلى درجةٍ تمكنها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بافتراض استقلالها عن اسبانيا، مع العلم أنه، على الواقع، اكثر من 3.000 شركة تفكر جديا في مغادرة كاتالونيا، بسبب نتيجة هذه الانتخابات.

في ذات الوقت، وبشكل موازٍ، وبعيدا ايضا عن العالم الافتراضي، يفكر زعيم الحزب الاستقلالي "بويجديمونت" في توكيل من ينوبه في حكم الاقليم فترة تواجده خارج اسبانيا، غير أن البرلمان يشترط حضوره الشخصي، وهو ما جعله حاليا يوافق على مقابلة رئيس الحكومة الاسبانية للتفاوض، ولكن "بلا شروط" على حد قوله، وذلك لعلمه بأن رجوعه يعتمد على قرار من المحكمة العليا. استمرارية الحكومة الكاتالونية يعتمد على موقف النواب الاستقلاليين الفائزين من عملية الانفصال أو الاستقلال من عدمه اعتبارا من الآن.

تعليق ختامي:
لا يُستبعد أن تكون اسبانيا ضحية لمؤامرة خارجية بتواطؤ من عناصر داخلية شعبوية وديماغوجية، تريد أن تنال اليوم من وحدة اسبانيا، ومن الوئام الاجتماعي في كاتنالونيا كما نالت فيما سبق من دول في أمريكا اللاتينية، فطالت في بداية الألفية الثانية فنزويلا وبوليفيا والأرجنتين والاكوادور، ونشرت الخراب والفتن والعنصرية والتفكك الاجتماعي، كما هو الحال في عالمنا بانتصاف الألفية الثانية كذلك. ولا يفوتنا هنا التذكير بالاتهام الذي وجهته وزيرة الدفاع الاسبانية، "ماريا دولوريس دي كوسبيدال"، في نوفمبر الماضي إلى كل من روسيا وفنزويلا بمحاولاتهم التدخل في الأزمة الكاتالانية، والتأثير إعلاميا بهدف "زعزعة استقرار اسبانيا"، وهو ما يتيح لنا الخلاص إلى مخرجات سياسية بالخصوص:

النزاع والخلاف الفنزويلي الاسباني يعود إلى أسباب اقتصادية تجارية في بادئ الأمر منذ عهد "تشافيز"، ثم لتأييد الحكومة الاسبانية للمعارضة الفنزويلية ضد الدكتاتور الفنزويلي الحالي "مادورو" في الأحداث الأخيرة في منتصف هذا العام. رأس الحربة الفنزويلية في اسبانيا يتمثل في حزب "بوديموس" (قادرون)، حديث العهد بالمشهد السياسي، حيث تأسس عام 2014، ذو العلاقة الوطيدة بالحكومة الفنزويلية، إلى الحد الذي إتًهم فيه باستلام ملايين الدولارات من فنزويلا في حملاته وانشطته السياسية، وبعلاقته بالحزب الذي يحمل نفس الاسم في فنزويلا (منذ 2002)، وبدفاعه المستميت عن أعمال العنف والجرائم التي يقترفها الرئيس الفنزويلي "مادورو" ضد الشعب الأعزل الذي مازال يكافح ضد الديكتاتورية الشرسة، وحتى بتقربه من إيران، وانحيازه لروسيا ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وبعزوفه خلال استفتاء كاتالونيا عن الإدلاء برأيه ضد الإنفصاليين، وانتهاج سياسة شعبوية ديماغوجية تخرج عن الطور الديمقراطي والسلمي عموما منذ تأسيسه.

فيما يخص التدخل الروسي، فهو قد لا يكون مباشر ولكنه مؤثر إن وُجد، ويذكرنا عن قريب باتهامات "ديمقراطيّو" الولايات المتحدة الأمريكية لها بالتأثير في الانتخابات الأمريكية لترجيح كفة الرئيس "دونالد ترامب" ضد "هيلاي كلينتون". المسببات الروسية قد تكون ذات علاقة بأزمة شرق أوروبا، والاجتياح الروسي لأوكرانيا، والعقوبات المفروضة عليها في حينه من قِبل الاتحاد االأوروبي، وتحديدا بدور ممثلو الحزب الشعبي الحاكم حاليا في اسبانيا PP، والحزب الاشتراكي العمالي الاسباني PSOE، وحزب الوفاق والوحدة CiU المستنكرة للتدخل الروسي في أوكرانيا، بعكس حزب "اليسار الموحد" IU، وحزب "بوديموس" (المشار إليه أعلاه) اللذين استحسنا التدخل الروسي، وأيدا المبررات التي قدمتها روسيا في هذا الخصوص، انطلاقا من حرص حزب "بوديمس" الطبيعي على "التقارب الجيوسياسي" مع روسيا وتوجيه الانتقادات باستمرار لدور للاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الروسية، وهو ما يؤيد "نظرية المؤامرة" (الافتراضية حاليا) فيما يتعلق بمحاولات "بوديموس" اليائسة للوصول إلى السلطة وتشكيل حكومة موالية لروسيا على غرار بعض من ذكرنا سابقا من دول العالم النامي الشعبوية والديماغوجية. 

 أما بريطانيا فهناك روابط تاريخية تجمع بين برشلونة ولندن، يعود أصلها إلى "حرب الخلافة على العرش الاسباني" ببداية القرن الثامن عشر، والتي تآمرت فيها إنجلترا ضد تاج اسبانيا البربوني القشتالي لصالح تاج "أراغون" الكاتالاني، فقادت اسبانيا إلى حرب أهلية حقيقية، انتهت بفقدان الأراغونيين والكاتالانيين لحقوقهم ومزاياهم التاريخية (هذا التاريخ يتخذه الانفصاليون اليوم ذكرى لسقوط برشلونة في أيدي ملوك البربون، بزعامة فيليبي الخامس عام 1714م). 

بريطانيا (ما بعد "البريكسيت") في حال انفصال كاتالونيا، وفي حال تغلّبت على الاتحاد الأوروبي وشركاته التي تحاول الاستئثار ببرشلونة داخله، وعلى الجاذبية الروسية والصينية، فقد يتحول الإقليم إلى "جبل طارق" جديد، و "كومنولث"، أو إلى مركز للشركات البريطانية، يسمونه البريطانيون بالـ "سيتي" City. 
   
لا يجب على الحكومة الاسبانية أن تترك "كاتالونيا" لقمة سائغة للمتدخلين الخارجيين ولا للقوى السياسية والعقول المدِّبرة من وراء الكواليس، ولا أن تتركها تتحول إلى "لومبارديا" أخرى يُستَغلّ فضلها على الأقاليم المتخلفة لبث الفرقة وتأجيج النزعة الانفصالية وبعث الخلاف القديم. لا نعتقد أن الإنفصاليين سيفترون، بل أن اسبانيا فتحت على نفسها باباً عواقبه غير معلومة التقاسيم ما لم تدخل اصلاحات وتعديلات "هيكلية" في نظامها الاقتصادي والمالي، وربما الإداري، بما يرضي كل الأقاليم. نعلم أن القضية تاريخية منذ القديم، ولكن لا ننسى أن الوئام والاستقرار داما بالرغم من ذلك بسبب السياسات التوفيقية منذ حلول الديمقراطية على اسبانيا وإلى حين تفجر الأزمة منذ قليل. 

لم نرَ حكومة الحزب الشعبي الحاكم تلجأ إلى معالجة الأسباب، بل رأيناها تجدّ في التركيز على التأثيرات. رأيناها مستمرة في حصد نقمة الانفصاليين وذهول المراقبين والمحايدين، جادّة في فرض الوحدة على الإقليم بجزع مفرط ما زادها إلا خبالاً وتأنيباً، بدلا من تغليب التوافق والوفاق السليم والحلول ذات البعد الطويل، بتسوية الأمور التي ساهمت بشكل غير مباشر كعوامل مساعدة في تأجيج مطالب الانفصال لدى الاستقلاليين، وهي بالدرجة الأولى أمور متعلقة بالاقتصاد والضرائب التي رأوها مجحفة في حقهم كإقليم مساهمته كبيرة في اجمالي الدخل القومي الاسباني باعتباره إقليم يحمل على كاهله مسؤولية تمويل عجز الأقاليم المتخلفة نسبيا من ناحية انتاجية بشكل يكاد يكون مستديم. 



كُتبت هذه المقالة في 21 ديسمبر 2017م 

No hay comentarios:

Publicar un comentario