18 -3 - 2018
تـوطئـــــــــة:-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تأتي هذه الورقة التحليلية على خلفية مقالة نشرتها صحيفة "بانغوارديا" بتاريخ 28 يناير 2018م حول "تراجع النفوذ الإسباني في المحافل الأوروبية"، من حيث فقدانها لمناصب هامة وقيادية، منذ
2009م (أو منذ 2012م حسب مصدر صحفي آخر) مضيفة أن مسؤوليات اسبانيا في المحافل
الدولية ليست من الدرجة الأولى، بل الثانية، ولا تليق "بمستواها
الإقتصادي" (الجيد)، وأنه "من المدهش عدم وجود اسباني واحد في مركز
القيادة في محفل أوروبي أو دولي" منذ سنة 2009.
الاختلاف في السنين لا يفسد لنتيجة الموضوع قضية، حيث أنه متقارب
ويندرج في الفترة الزمنية لحكومة واحدة، وهي حكومة "رودريغيث ثاباتيرو"،
رئيس الحكومة الاسبانية عن الحزب الاشتراكي العمالي، الذي وصل لسدة الحكومة في
مارس 2004 (بطريقة غير متوقعه لا مجال لذكر حيثياتها هنا) ثم في ديسمبر 2011م غادر
الحكومة قبل الأوان بقليل بسبب أزمة اقتصادية حادة، يفترض أنه أحد المتسببين فيها
بعد أن استلم بلداً معافى اقتصاديا، ثم سلّمه مجدداً إلى حكومة الحزب الشعبي
المستمرة حتى 1 يونيو 2018م.
وبدورنا، سنتخذ من سنتي 2009م و 2012م "علامتين" أو مؤشرين نأمل
أن يخدما مدخلات ومخرجات ورقتنا التحليلية، بعيداً عن "ذاتية" الصحيفة
المذكورة أو الوسائل الإعلامية، وسننظر إليهما كعلامتين "صغرى وكبرى"، ولكن
ليس على التراجع الإسباني المزعوم في المنظومة الأوروبيةً، وإنما كذلك على تراجع
أو انكماش اقتصادي داخلي قوي (نفت تلك الصحف وجوده) لم يربك المشهد السياسي في
حينه، ولم يؤثر على الأداء الخارجي للحكومة، ولا على قرارات الاتحاد الأوروبي بشأن
اسبانيا ونفوذها، مع الأخذ في الاعتبار أن انحسار دور الدول من عدمه غالباً ما
يكون مرحلياً، يُعزى إلى صراعات داخلية، أو إلى عوامل اقتصادية، أو ايديولوجية، أو
هيكلية، أو إليها كلها معاً، سننظر بما ترجع به على دور المملكة الاسبانية في
منظومتها الاتحادية.
مـدخـــلات:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التراجع
المشار إليه فيما
يخص النفوذ الاسباني (اعتباراً من 2009 أو 2012)، بُنيَ على الرأي القائل بفقدان
مناصب هامة تولتها شخصيات اسبانية في حينه، ويعتمد في ذلك على الحقائق التالية:
·
منذ 1986 تولت شخصيات اسبانية مناصب في
المفوضيات الأوروبية، سبعة شخصيات اسبانية (4 من الحزب الشعبي و 3 من الحزب
الاشتراكي العمالي) وثلاثة آخرون ترأسوا البرلمان الأوروبي (أنريكي بارون، من 1989
إلى 1992، و خوسي ماريا روبليس، من 1997 إلى 1999، و خوسيفبورّيل، من 2004 إلى
2007).
·
في الفترة من 1994 إلى 2004م تولى وزير
الخارجية الاسباني السابق، "خابيير سولانا"، من الحزب الاشتراكي
العمالي، رئاسة الأمانة العامة لحلف الناتو، ورئاسة المفوضية الأوروبية الخاصة
بالشؤون الخارجية والأمنية.
·
الإدارة العامة لليونسكو، ترأسها السيد
"فيديريكو مايور ساراغوسا" (من 1987 إلى 1999م) خلال فترة حكم الرئيس
الاشتراكي العمالي "فيليبيغونساليس" (1982 – 1996).
·
تولي السيد "رودريغوراتو" (نائب
رئيس الحكومة الاسبانية خلال فترة حكم "خوسي ماريا ازنار)إدارة صندوق النقد
الدولي (2004 - 2007م).
أ)- مرحلة الحكم الاشتراكي (مارس 2004 –
ديسمبر 2011)
لم يحدث تراجع هام في الدور الاسباني في أوروبا بالرغم من الأزمة الاقتصادية (2004 – 2011) على مدى سبعة سنوات و 4 أشهر من حكم الرئيس الاشتراكي "ثاباتيرو"، حيث شهدت اسبانيا أحد أعنف أزماتها الاقتصادية، وربما مازالت آثارها مستمرة إلى يومنا هذا. تشير تقارير إلى أن الاقتصاد الاسباني كان مستقراً حينما وصل "ثاباتيرو" إلى سدة الحكم في شهر مارس 2004م. اسبانيا كانت تنمو بمعدل 3% تقريباً في الفترة بين 2001 و 2004، بينما لم تصل حتى إلى 0,1% بنهاية 2011م. في 2007 بدأت في الظهور مؤشرات انكماش اقتصادي لم يعترف بوجودها رئيس الحكومة "ثاباتيرو" حتى صيف 2008. وفي 2009 انخفض مستوى الاقتصاد الاسباني بنسبة 3,7%، وهي أعلى نسبة انكماش اقتصادي في 20 سنة. في السنتين التاليتين تعافى الاقتصاد نوعاً ما، ولكن ليس بالقدر الكافي كما حدث مع نظيرات اسبانيا في الاتحاد الأوروبي. تفاقمت معدلات البطالة خلال السبع سنوات الأولى، من 2.000.000 مع بداية حكمه إلى 4.800.000 فيما بعد، في الوقت الذي زادت فيه هشاشة الاقتصاد الوطني بسبب إصرار رئيس الحكومة على تمويل الدولة من خلال الاستدانة لسد العجز (الذي انتقل من 0,28%، إلى 11%) بينما بلغت الديون بنهاية 2010م 13,8% من الناتج المحلي، بعد أن كانت 1,7% في الربع الأول من عام 2004م.
ب)-مرحلة الحكم الشعبي (ديسمبر2011– يونيو 2018م)
فيما يخص حكومة الحزب الشعبي (الحزب الحاكم منذ 2012م وحتى تاريخه) برئاسة "ماريانوراخوي"، تصدرت اسبانيا سنة 2015م قائمة المناصب في الاتحاد الأوروبي، واحتلت المركز الرابع في قائمة الدول التي تضم أكبر عدد من المناصب القيادية في الهيئات الأوروبية المختلفة، فضلاً عن الحقائق التالية:
·
شغلت شخصيات اسبانية 13 منصباً، خلف ألمانيا
(23 منصباً) والمملكة المتحدة (17) وإيطاليا (14) و أمام فرنسا (12). الترتيب
المشار إليه اعتبرته المؤسسة الأوروبية Bruegel(وهي بمتابة "تينك
تانك" اقتصادي أوروبي) اعتبرته مؤشرا على عدم فقدان اسبانيا لوزنها السياسي
في وكالات الاتحاد الأوروبي.
·
مثّلاسبانيا 15 سفيراًأوروبياً، في المرتبة
الثانية بعد فرنسا، ناهيك عن أن المدير التنفيذي لوكالة الدفاع الأوروبي هو
الاسباني "خورخي دوميك"، وكان لها من قريب ممثل الأمين العام للأمم
المتحدة إلى ليبيا،
"برناردينو ليون"، إلى جانب ممثلين اسبان اخرين في مختلف إدارات الأمم
المتحدة.
·
في 12 فبراير (2018م) تولت اسبانيا رئاسة
لجنة الأمن التابعة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبية وذلك لمدة سنة (مقرها فيينا،
تضم 57 دولة، وهي بذا تكون أكبر منظمة أمنية اقليمية عالمياً). وفي 19 فبراير
الماضي (2018) فاز وزير الاقتصاد الاسباني الحالي، "دي غيندوس" بمنصب نائب
رئيس المصرف المركزي الأرووبي.
·
صنّف البنك الدولي إسبانيا في المرتبة 12
عالمياً، وآخرون في المرتبة 14، من بين 206 دولة، حيث شغلت عضوية غير دائمة بمجلس
الأمن في الحكومة الشعبية الحالية PP،
مقارنة بالمنصب الذي شغلته كعضو مراقب في مجموعة العشرين G20 في عهد
"ثاباتيرو" (2004- 2011)، وبعهد
الرئيس الاشتراكي "فيلييبيغونساليس" (1982 إلى 1996) والرئيس الشعبي
"أزنار" (1996 إلى 2004) وهما حكام ما يعرف بـ عهد السياسة الخارجية
"الذهبي" (1985 - 2000) وهي الفترة التي تلخص دخول اسبانيا للاتحاد
الأوروبي، ثم تبنّيها لعملة اليورو، الخ.
كل
ذلك تزامن مع مشاكل
اقتصادية رافقت الحكومة الحالية، حكومة "ماريانوراخوي"، من بينها مشاكل متعلقة
باستثمارات شركاتها في بوليفيا والأرجنتين وفنزويلا، وبعض الدول العربية، من بينها
ليبيا، واستثماراتها النفطية فيها، الخ، ناهيك عن مشاكل متعلقة بالديون الاسبانية،
بلغ صافيها الخارجي نسبة 90% من الناتج المحلي الاجمالي، أي بنسبة تتجاوز 35% الحد
الأقصى الذي تشترطه المفوضية الأوروبية، حيث تقبع في المرتبة السادسة بين الدول
ذات أكبر نسبة من الدين العام في النصف الثاني من سنة 2016م (100,5% من اجمالي
الناتج المحلي)، وهي نسبة فاقت متوسط الاتحاد التي لا تتجاوز 84,3% حسب المكتب
الاحصائي للإتحاد الأوروبي، ما جعل الاتحاد ينظر إلى الاقتصاد الاسباني بمعيار
الاقتصاديات الهشة مقارنة ببقية دول العالم.
وفي إطار "تصحيح" الخلل، سعت اسبانيا مؤخراً
إلى شغل منصب نائب البنك المركزي الأوروبي، بترشيح الحكومة الاسبانية لوزير
الاقتصاد الحالي، "لويس دي غيندوس" الذي فاز بتاريخ 19 فبراير
2018 بالمنصب المذكور، علماً بأن السيد "دي غيندوس" كان مرشحاً
اصلاً لرئاسة "اليورغروب"، Eurogroup،
ولكنه خسرها لصالح وزير المالية البرتغالي، السيد "ماريو سانتينو" في
ديسمبر 2017م نتيجة ربما ترجيح كفة الاشتراكيين على حساب الشعبيين في البرلمان
الأوروبي، أو توافقات مؤقتة أدت إلى تلك النتيجة.
ب -1) تأثير المنظومة الأوروبية على
المشاركة الاسبانية خلال الحكومة الحالية:
المجلس الأوروبي (الذي يجمع 27 رئيس دولة أو
حكومة، زائد رئيس المجلس نفسه ورئيس المفوضية الأوروبية، أي 29) تحكمه خمسة أحزاب
سياسية (إلى جانب عضوين مستقلين): عدد (9) نواب ينتمون للحزب الشعبي الأوروبي PPE، و(8) منهم من
الحزب الاشتراكي الأوروبي PSE
و (7) من مجموعة تحالف الليبراليين والديمقراطيين الأوروبيين ALDE، و (2) من الحزب
المحافظ والإصلاحي الأوروبي CRE،
عدد (2) مستقلين، و(1) ممثلاً عن مجموعة الكونفدرالية اليسارية الاتحادية
الأوروبية واليسار الأخضر الأسكندنافيGUE-NGL.
اعتباراً من 23/6/2016 اتخذ الاتحاد الأوروبي
مساراً جديدا غيّر الوضع السياسي والإقليمي له، فهو التاريخ الذي قرر فيه
البريطانيون الخروج من الاتحاد. ذاك الانسحاب من الاتحاد، مضاف إليه الانتخابات
التي شهدتها هولندا وبلغاريا وكرواتيا، اسهمت في تغيير المشهد الاتحادي إلى الحد
الذي حدث فيه تغيير في المجلس الأوروبي، وبالتالي في تشكيلة من يحكم في أوروبا من
بين المجموعات السياسية التي يتشكل منها المجلس، والتي تتنافس فيما بينها،
ليبراليين، اشتراكيين، ديمقراطيين مسيحيين أو محافظين. الترشيحات للمناصب
الأوروبية يعتمد كثيراً على هذه التجاذبات والتنافس بين المجموعات الأيديولوجية في
صدر البرلمان، ويهيمن "الحزب الشعبي الأوروبي"، وهو حزب يمين وسط، محافظ
وليبيرالي، تقوده احزاب ديمقراطية مسيحية في الأصل (الألماني، والجمهوريون
الفرنسيون والحزب الشعبي الاسباني) على البرلمان الأوروبي (217 نائب -
فبراير 2017م)، أي ما يعني هيمنة الديمقراطيين المسيحيين، من خلال النواب التسعة. صراع
توازن أيديولوجي ربما، بين يسار ويمين في البرلمان الأوروبي (مسؤول عن انخفاض أو
ازدياد حصص المناصب) باعتبار أن النواب الأوروبيين يتآلفون وفق الانتماءات
السياسية وليس الجنسيات، مما قد يكون سبباً في وصول وزير الاقتصاد الاسباني
"لويس دي غيندوس" إلى منصب نائب المصرف المركزي الأوروبي في بداية الشهر
الجاري. من هنا تفسير التراجع النسبي، وليس بشكل دائم، كما أشارت تلك الصحيفة،التي
تنبأت أيضاً بخسارة وزير الاقتصاد الاسباني المذكور، مرشح الحكومة الحالية.
وفي الختام، فبالرغم من الانفراج في العلاقة الاسبانية داخل المنظومة الأوروبية التي رفعت سقف مؤشر النمو الاسباني نقطة
كاملة في 7 فبراير الماضي (من 2,5% في نوفمبر 2017م إلى 2,6% في فبراير 2018م)
وبالرغم من تأثيرات أزمة كاتالونيا (التي إذا عادت للظهور من جديد فإنها حتما
ستؤدي إلى مزيد من الآثار العكسية) إلا أن التحسن الاقتصادي لم يكن "بالمستوى"
الذي أشارت إليه الصحف المعنية (بسبب ديون اسبانيا، ومشاكلها الداخلية، وتأثيرات
ترامب).
مخرجات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عملية الحصول على مناصب دولية يتطلب "استراتيجية
وجهد مستديم ومشترك" وقدرة من طرف اسبانيا لاستعراض مهاراتها وتفاعلها
مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وإدارة مصالحها، في إطار سياسة خارجية واقعية بعيداً عن سياسة العزلة التي يرتمي فيها
رئيس الحكومة الشعبية ووزير خارجيته، المشتهرين بالانهماك في السياسة الداخلية على
حساب الأولى، وخاصة في مرحلة تغيير هامة في كنف الاتحاد.
كما يتطلب الأمر، وبشكل موازي، توافقاً فيما بين
الأحزاب داخلياً، وهو ما لم يحدث بشكل مكتمل في اسبانيا، وخاصة في 2016 و 2017م. وعلى
سبيل المثال لا الحصر أدت الصراعات الداخلية بين الحزبين
الرئيسيين، الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العمالي، وانعدام التوافق بينهما، والاتهامات المتبادلة حول مسائل الفساد وسوء إدارة الأزمة الاقتصادية،
إلى خسارة اسبانيا لمقعد في اللجنة التنفيذية للمصرف المركزي الأوروبي في 2015م لصالح
المرشح من لكسمبورغ. وفي 2014م صوّت الحزب الاشتراكي العمالي الاسباني ضد وزير
الزراعة الاسباني السابق "ميغيل كانييتي" (مرشح الحزب الشعبي) لشغل منصب
المفوض الأوروبي لشؤون الطقس والطاقة، ولم يحرك اصبعاً واحداً (حسب اتهامات الحزب
الشعبي له) لحث الاشتراكيين الديمقراطيين الأوروبيين على دعم وزير الاقتصاد
الاسباني، "لويس دي غيندوس" لشغل منصب مدير المصرف المركزي الأوروبي، وخسارته لرئاسة "اليوروغروب" في 2017م. ولكنهناكحالتان
اثبت فيهما الوفاق بين الحزبين والإجماع نجاحه، وهي عندما تعلق الأمر بالترشح الإسباني
للعضوية غير الدائمة لمجلس الأمن بالأمم المتحدة، التي بدأها الرئيس
"ثاباتيرو" (2004 – ديسمبر 2011م) وأنهاها الرئيس "راخوي"
(2012 – حتى تاريخه).
ذلك الصراع الحزبي ربما كان له دور في تعميق أزمة
التمثيل الخارجي لإسبانيا، ولو بشكل مؤقت وخلال مرحلة قصيرة، ولم تهدأ وتيرة
التنافس بينهما إلا بعد أزمة كاتالونيا (اكتوبر 2017) وإعلان الاستقلال من طرف
واحد من قبل حكومة الاقليم، حيث أحسّا بضرورة توحيد الصفوف حفاظا على مصالحهما
واستمرارية هيمنتهما على المشهد السياسي، من باب "الإكراه، لا البطولة".
No hay comentarios:
Publicar un comentario